تاسعاً من ثمرات الاخلاص : ما يزيد صاحبه من الاحوال العجيبه كاجابة الدعاء والسعاده الغامره
تاسعاً : من ثمرات الإخلاص ما يجده صاحبه من الأحوال العجيبة ، كإجابة الدعاء و السعادة الغامرة و اللذة التي لا تدانيها لذة :
يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله ، يذكر درجات الناس فيما يجدونه من ثمرة التوحيد ، يقول : منهم من وجد حقيقة الإخلاص و التوكل على الله في الالتجاء و الاستعانة به ، و قطع التعلق بما هو سواه ، و جرب من نفسه أنّه إذا تعلق بالمخلوقين و أتاهم و طمع فيهم أن يجلبوا له منفعة أو يدفعوا عنه مضرة ، فإنّه يُخذل من جهتهم و لا يحدث مقصوده ، بل قد يبذل لهم من الخدمة و الأموال و غير ذلك ما يرجو أن ينفعوه في وقت حاجته إليهم ، فلا ينفعونه إما لعجزهم و أما لانصراف قلوبهم عنه ، و إذا توجه إلى الله بصدق الافتقار إليه ، و استغاث مخلصاً له الدين ، أجاب دعائه و أزال ضرره و فتح له أبواب الرحمة ، فمثل هذا قد ذاق من حقيقة التوكل و الدعاء لله ما لم يذق غيره ،
و كذلك من ذاق طعم الإخلاص لله و إرادة وجهه دون ما سواه ، يجد من الأحوال و النتائج و الفوائد ما لا يجده من لم يكن كذلك ، بل من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة و العلو و تعلقه بالصور الجميلة أو جمعه للمال ، يجد في أثناء ذلك من الهموم و الغموم و الأحزان و الآلام و ضيق الصدر ما لا يُعبّر عنه ، و ربما لا يطاوعه قلبه على ترك الهوى و لا يحصل له ما يسره ، بل هو في خوفٍ و حزنٍ دائم ، إن كان طالباً لما يهواه فهو قبل إدراكه حزين متألم حيث لم يحصل ، فإذا أدركه خاف من زواله و فراقه ، و أولياء الله لا خوفٌ عليهم و لاهم يحزنون ، فإذا ذاق هذا أو غيره حلاوة الإخلاص لله و العبادة ، و حلاوة ذكره و مناجاته ، و فَهِم كتابه ، و أسلم وجهه لله و هو محسن ، بحيث يكون عمله صالحا و يكون لوجه الله خالصا ، فإنه يجد من السرور و اللذة و الفرح ، ما هو أعظم مما يجده الداعي المتوكل الذي نال بدعائه و توكله ما ينفعه من الدنيا أو اندفع عنه ما يضره ، فإن حلاوة ذلك هي بحسب ما حصل له من المنفعة أو اندفع عنه من المضرة ، و لا أنفع لقلبٍ من التوحيد و إخلاص الدين لله و لا أضر عليه من الإشراك ، فإذا وجد حقيقة الإخلاص التي هي حقيقة
( إياك نعبد )
مع حقيقة التوكل التي هي حقيقة
( إياك نستعين )
، كان هذا فوق ما يجد كل أحد لم يجد مثل هذا، و الله تعالى أعلم .
و يقول ابن حزم رحمه الله تعالى في هذا المعنى ، يقول : إذا تعقبت الأمور كلها فسدت عليك ، و انتهت في آخر فكرتك باضمحلال جميع أحوال الدنيا ، إلى أنّ الحقيقة إنما هي العمل للآخرة فقط ؛ لأنّ كل عملٍ ظفرت به فعقباه حزن ، إما بذهابه عنك و إما بذهابك عنه ، و لا بد من أحد هذين السبيلين ، إلا العمل لله عز وجل فعقباه في كل حال سرورٌ في عاجلٍ و آجل ،
أما في العاجل فقلة الهم لما يهتم به الناس ، و إنّك به معظم من الصديق و العدو ،
و أما في الآجل فالجنة ، و على كل حال هذا أمرٌ يجده كل أحدٍ في نفسه ، الذي يعمل و هو يتطلع للآخرين فإنّ قلبه يتآكل ؛ لأنّ هؤلاء الآخرين قد يرضون عن فعله و قد لا يرضون عنه ، فيكون قلبه معلقاً بهؤلاء الناس ، فهو ينظر إلى حركاتهم و إلى سكناتهم و يحلل الفاظهم ؛ لينظر هل هم راضون عنه ، أم أنهم ساخطون عليه ، و معلومٌ أنّ رضا الناس غايةً لا تُدرك ، فيبقى العبد متآكلاً ، و هكذا إذا حصل رضا الناس فإنّه يبقى في قلقٍ دائم و هاجس ، هل يستمر له هذا القبول و المحبة و التقدير و الإكرام من قبل هؤلاء المخلوقين ، أم أنّ ذلك يتلاشى عنه ، فهو في قلقٍ في هذه الحال و في تلك ، و لا أروح لقلب العبد من أن يعلق أمره بالله عز وجل ، فيكون مقصوده هو الله تبارك و تعالى و طلب مرضاته ، فإذا علق العبد قلبه بذلك استراح ، فهو لا يلتفت إلى المخلوقين هل رضوا أم أنهم سخطوا ، المهم أن يرضى الله عز وجل عنه ، فهذا هو غاية مبتغاه ، و لهذا تحصل له السعادة والطمأنينة ، فلا يقلق إذا قلق الناس و لا يحزن إذا أصابهم الحزن .