الحديث الحادي والعشرون حديث الجمال
- قال مسلم رحمه الله
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ. قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ فُضَيْلٍ الْفُقَيْمِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ"
الحكم على الحديث
صحيح مسلم (91/ 147)
أهمية الحديث
1- لتوجيه أن يكون الرباني متصفاً بصفة يحبها الله
2- بيان صفة من صفات أهل الجنة للتنافس في التحلي بها
3- بيان مرض خطير من أمراض القلوب
فوائد الحديث
1- وهذا حديث آخر في معرفة الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا الجالبة لمحبة العبد لربه جل جلاله، ففيه اسم الله "الجميل" سبحانه جل في علاه، وقد فطر الله النفوس على حب الجمال والميل إليه، فكيف بمن له الجمال كله والكمال كله والعظمة كلها والجلال كله؟ سبحانه، فله الحب كله، لا يحب لذاته إلا هو سبحانه
2- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ". وعيد خطير لو أدرك العبد
مثقال ذرة من كبر تمنع دخول الجنة
يا له من خطر داهم
- ومن ذا الذي يضمن طهارة قلبه من ذرة، ومن يدري؟
- وكيف السبيل للتخلص من هذه الآفة ابتلي بها في نفسه، والتطهر من آفات النفوس عسير؟
3- فيه أن معاصي القلوب أكبر وأعظم وأخطر من معاصي الجوارح، فالجنة لمن قال: لا إله إلا الله. وإن زنى وإن سرق. ولا يدخلها من كان في قلبه كبر
4- سبحان من خلق هؤلاء الصحابة، جل جلاله، له الحمد وله الشكر وله الثناء الحسن
سبحان الله! قال رجل: (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة). قول هذا الرجل أزال إشكالات كثيرة وأوضح مسائل متعددة وأبان عن مراد الشارع في الكبر ما هو، وأفاد عن معنى الجمال
5- إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. نعم، إنها نفوس تحب، فضلاً عن أن تريد أو تفعل، فقد يحب الإنسان الجمال ولو لم يتصف به، وذلك سمت النفوس الجميلة: يحب أن يكون ثوبه حسناً. إنه يحب الحسن، والحمد لله أن الشرع لا يعيب هذا ولا يمنعه ولا يحرمه؛
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىٓ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ ۚ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْآيَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]
فحب الجمال جميل ومشروع ولا يعاب المرء به، بل يمدح
6- وكان الجواب الجميل: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ". الله أكبر، أنا أحب الله، إنه جميل يحب الجمال، فكن جميلاً، وأحبب الجمال ما شئت من غير إسراف ولا مخيلة، فربك الجميل سبحانه جل جلاله يحب الجمال
7- "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ". سبحانه، له جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأسماء، وجمال الأفعال، سبحانه سبحانه؛ فالمحبة لها داعيان؛ الجمال، والجلال، والرب تعالى له الكمال المطلق من ذلك؛ فهو جميل يحب الجمال؛ الجمال كله له، والإجلال كله منه، فلا يستحق أن يحب لذاته من كل وجه سواه، فكل جمال صوري أو جمال معنوي فهو أثر جماله؛ فلا جمال ولا جلال ولا كمال إلا له، ومن أحق بالجمال ممن كل جمال في الوجود من آثار صنعه؟
8- له جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء؛ فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة. أما جمال الذات وما هو عليه فأمر لا يدركه سواه، ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرف بها إلى من أكرمه من عباده؛ فإن ذلك الجمال مصون عن الأغيار، محجوب بستر الرداء والإزار، كما قال رسوله فيما يحكى عنه: "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري" (1). فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال، وستر بنعوت العظمة والجلال؟
فالعبد يفهم بعض معاني جمال الذات بالترقي من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئاً من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات (2)
9- كل ما يصدر عنه جميل تستحسنه العقول السليمة، وتستسيغه النفوس
10- كل أمره سبحانه وتعالى حسن، يكلف اليسير من العمل، ويعين عليه، ويثيب عليه الجزيل، ويشكر عليه، يجعل الحسنة عشراً ويزيد من شاء ما شاء ويعفو عن السيئات، ويستر الزلات
______________________
(1)أخرجه مسلم (2620)
(2)الفوائد ص 182
11- "يُحِبُّ الْجَمَالَ". دعوة لحب ما يحبه الله، إن ربكم جميل، يحب الجمال، فأروه الجمال الذي يحبه، جمال الظاهر، وجمال الباطن
12- "الكبر بطر الحق، وغمط الناس". خلقان ذميمان متوافقان متلازمان، فمن رد الحق ولم يقبله ازدري الناس واحتقرهم، ومن احتقر الناس لا يقبل منهم حقاً ولا غيره، فنعوذ بالله من هذين الخلقين
13- ولتطهير النفس من الكبر لا بد من استغاثة بالله واستعانة؛ فإنه لا يملك القلوب إلا هو، وصدق رغبة يراها الله من قلب التائب لكي يعينه بمجموعة من الأسباب تعينه على التطهر من هذا الخلق الذميم
14- عن الشريد بن سويد رضي الله عنه، قال: أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يجر إزاره، فأسرع إليه، أو هرول، فقال:
"ارفع إزارك واتق الله". قال: إني أحنف تصطك ركبتاي.
فقال:
"ارفع إزارك، فإن كل خلق الله عز وجل حسن". فما رئي ذلك الرجل بعد إلا إزاره يصيب أنصاف ساقيه أو إلى أنصاف ساقيه (1)
في هذا الحديث فائدة جليلة عظيمة في فهم حكمة الله عز وجل في خلق الجمال، فاعتقاد أن كل خلق الله جميل وإن بدا في أعين بعض الناس قبيحاً يجعل الحكمة من هذا الخلق رؤية الجمال من وجه فيه؛
{فَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]
إن قاعدة تغيير اتجاه النظر قاعدة مهمة وخطيرة، فإذا نظرت إلى شيء ليس بجميل من وجهة نظرك
فتغيير اتجاه النظر أن تراه من خلق الله؛
ٱلَّذِىٓ أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُۥ
[السجدة: 7]
تغيير اتجاه النظر عن مقاييس الجمال في نظرك؛
{إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]
______________________
(1)أخرجه أحمد (19475). وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح
تغيير اتجاه النظر بالحكمة في خلق هذا الشيء، والذي كان من الخير المعلوم وغير المعلوم في إيجاده على هذا الشكل وبهذه الهيئة قال تعالى: {
صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِىٓ أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ ۚ إِنَّهُۥ خَبِيرٌۢ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88].
15- "بَطَرُ الحق". رد الحق وعدم قبوله كبر، نعوذ بالله من الكبر وأهله، فعلامة التواضع وصفة الرباني الذي هو لله خاضع، أنه يقبل الحق ممن جاء به كائناً من كان
يقبل الحق وإن لم يوافق هواه وشهوته ومراده ووجهة نظره، يقبل الحق وإن أتى من عدوه أو منافسه أو. . . أو. . أو. . . أو، فهو يقبل الحق للحق بحق
16- "غمط الناس". احذر من غمط الناس: احتقارهم وازدرائهم وبخس حقهم، وفي لفظة: "غمط". إشارة إلى كراهية فضل الناس وإخفاء محاسنهم أو الإعراض عنها وعدم اعتبارها، إنه خلق ذميم؛ أن ترى فضل نفسك ولا ترى للآخرين فضلاً او مزية.
17- حديث الجمال مشتمل على أصلين عظيمين؛ أوله معرفة، وآخره سلوك؛ فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء، ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق، فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة والختان وتقليم الأظفار، فيعرفه بصفات الجمال، ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة، فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه، فجمع الحديث قاعدتين؛ المعرفة والسلوك (1).
اللهم إنا نعوذ بك من الكبر وأهله
ونسألك أن ترزقنا التواضع
______________________
(1)الفوائد (ص 186)